بمناسبة الإنتخابات البلدية:
لا أخفي شوقي إلى اهلي وإلى قريتي ووطني. أحزن كلما غاب أحدهم وأشعر بأن ضلعا غاليا نزع من قلبي. لكن بيني وبينهم حائط ثقافي سميك. فقد تغذت ثقافتي عبر السنوات بطعم الحرية التي عشتها في بلدان الإغتراب. أشعرتني السنوات هناك بقيمة شخصي، وبعزة نفسي، وبلذة الكرامة الشخصية. فيما هم ما زالوا يعيشون ثقافة الحرب وما تفرضه من ولاءات غير طبيعية.
كانت السنوات تمضي لكنني حافظت على روابطي مع اهلي وقريتي. لم أقرر كغيري أن أشتري بيتا في الغربة أو حتى في بيروت. فضلت أن أضع كل جنى عمري لأكون بقربهم فقد زرعتهم في أعماقي وتعلقت بهم منذ طفولتي، وتعلمت بينهم حب لبنان، والقيم الأخلاقية ورفعة الذات. كنت أبني بيتي لبنة لبنة. لطالما تسلم الأبناء عن أبائهم الأشغال في بيتي التي استمرّت لعقود.
عدت سعيدا لأتقاعد بين اهلي الذين احببت. واعدت ابني الوحيد معي. وجدت حالة اجتماعية مختلفة عن كل ما ورثته من الأقدمين. لم يعد أحد يطرق الباب. صارت الزيارة بموعد مسبق. وجوه كثيرة كانت طفلة حين مغادرتي، وأخرى ولدت خلال غيابي. كلهم شبوا وكبروا في غيابي. كثيرون من الشباب والشابات ما عادوا يعرفونني، ولا يعرفون عن والدي القاضي الدكتور سليم حمدان من أوائل حملة دكتوراة في القانون الإداري في لبنان والذي جلب الكهرباء ٢٢٠ فولت إلى البنيه، وأول قاض في القرية ورئيس الهيئة الإدارية لرابطة خريجي الداوودية. هؤلاء الشباب والشابات لا يملكون من الماضي إلا ذكريات الحرب والموت والدمار وأخلاقيات الحرب. وعليه، وجدنا ابني وانا نفسي أننا بعيدين عن الذين أحببناهم، وبيننا وبينهم حائط سميك من المفاهيم الثقافية.
سعينا رغم ذلك إلى متابعة أنشطتنا وفقا لمفاهيمنا. أقمنا شركة ومركزا استثماريا لدفع الأنشطة الاستثمارية في المنطقة. أحضرنا مشاريع عديدة تغني الزراعة وأهل أصحاب الأراضي الجرداء مثل مشروع زراعة الصبار، ومثل مشروع متحف الحيوانات ما قبل التاريخ، لكننا واجهنا حقيقة أنه لا استثمار في الجبل دون شراكة مع سيد المختارة.
لم يستطع إبني تحمل هذا الواقع فهاجر. وأصبحنا والدته وأنا، وحدنا بعيدين عن أولادنا. لم أكن وحدي من عانى ويعاني من هذا الأمر، لطالما ذهب الشباب إلى سيد المختارة فكان يقول لهم هاجروا. عاد شقيقي بمشروع إنمائي فقال له لماذا عدت؟
سعيت جاهدا أن أستخدم علومي وخبرتي وعلاقاتي للتعريف بالمنطقة. فاجأني شاب كان يعمل بالتراكتور في منزلي، قائلا ؛ الناس لا يهمها علاقاتك. الناس يهمها أموالك. ربما لو لم تكن أمي هناك كنت هاجرت أنا أيضا.
لكنني لم أفعل. قررت أن أكتب مطالبا بالعودة إلى المواطنة واستخدام المتاح من الصداقات الدولية لمساعدة بلدنا وشبابنا بالخروج من حالة الحروب العبثية. لكنني أصبحت في خانة الخصوم عند سيد المختارة وأزلامه. في منطقتنا لا تستطيع أن تكون حرا. يجب أن تلتمس رضا سيد المختارة أو أمير قصر خلدة. لا يكفي أن تكون محايدا ومخلصا لأهلك بل يجب أن تكون تابعا. رفضت حتما ذلك. لماذا يجب أن أتبع هذا وذاك وأنا مقتنع أنني لا أنقص قدرة عنهم في تقرير مصيري. لقد شاركت في صناعة القرارات الدولية والمعاهدات التي تنظم العلاقات الأممية، فهل أحتاج لشاب يقودني لمجرد أنه ولد لهذه العائلة أو تلك؟
ربما أن ما قرأته وتعلمته عن حركة الشعوب المناهضة لملوك وأمراء وقادة كان يفترض بهم أن يتبعوهم لمجرد أنهم ورثة أبائهم من ملوك وأمراء ورجال إقطاع تحت عنوان مات الملك عاش الملك، زاد من تصميمي على الإنتفاض على هذا الواقع. كنت أحزن لأهلي الذين يسكرون في خمرة ذلك الماضي ويتلذذون بثقافة التبعية والوقوف على باب هذا وذاك. لم أكن قادرا أن أغمض عيني وأحفظ لساني. فسأخون ضميري وثقافتي وقناعاتي. قال كمال جنبلاط إذا خيرت بين ضميرك وثقافة حزبك ومحيطك فاختر ضميرك.
أقول هذا الكلام والناس أمام صناديق انتخاب أعضاء البلدية التي ستهتم بأمورهم ومصالحهم لست سنوات قادمة. لعلنا نعمل لكي نخرج من ثوب الحرب وننطلق في مسيرة السلام. يتحدثون عن الوفاء لأمير الحرب، جاء دوره الآن لأن يكون وفيا للدماء والأرواح التي بذلها الناس وحملته ليكون قائداً متوجا أكثر من ثلاثين سنة. من واجبه أن يدفع بالمواطنين إلى الغد. بين أهلنا شبيبة تملك طاقات وإمكانيات هائلة شاركت وتشارك في بناء مستقبل شعوب أخرى فيما ما زال أهلنا يرزحون في التخلف ويتركون مجاري الصرف الصحي في بيوتهم تصرف على الطرقات حولهم فتبعث الأمراض لإطفالهم .
آن الأوان أن نعود الى حضن الوطن. ان الأوان ان نخرج من الجمود المذهبي الذي زرعته في شبابنا حالة الحرب وان نعمل لوحدتنا الوطنية والدفع بالدولة لتكون الحامية لنا جميعا.
د . هشام حمدان