عن أية مصالحة تتحدثون يا أهل الجبل؟

بمناسبة الإنتخابات البلدية:
عن أية مصالحة تتحدثون يا أهل الجبل؟
السفير د. هشام حمدان

“صديقكم من يصدقكم لا من يضحك في وجهكم ويلعن عقولكم وثقافتكم في باطنه”.

أنا لست مهاجرا. لم أترك وطني وشعبي خلفي، ولم أترك النسيان يطوي ذاكرتي. لبنان يعيش في ضميري ووجداني وفي نبضات قلبي وتموجات عقلي.

كان الحديث عن لبنان جزءا من خطابي الدبلوماسي اليومي في المغترب اللاتيني. وجدت أن المهاجر اللبناني هناك الذي ترك وطنه الأم في القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين، قد ترك عائلات ونوادي ومؤسسات زرع فيها فؤاده اللبناني ليتوارثه الأبناء والأحفاد من بعده. لم أتخيل يوما عمق العشق الذي يحمله أبناء الجيل الثاني وحتى الثالث من المهاجرين للبنان. هو صورة مرسومة في قلوبهم بجماله وتراثه ودوره الإنساني المميز بين الشعوب.

في هذا الإغتراب، وجدت أنا أيضا ذاتي. تفاعلت مع أحاسيسهم ومشاعرهم فجعلت من أحاسيسي ومشاعري وعمق معرفتي بتراثنا وميزاتنا، وسيلتي إلى قلوبهم وعقولهم. كل ذلك بغية خدمة روابطهم وتعميقها مع الوطن الأم، وتحويلها قوة جارفة تخدمهم في حياتهم اليومية في أوطانهم الجديدة وتخدم لبنان وعلاقاته مع أوطانهم.

كانت خطاباتي شبه اليومية تتحدث عن ميزات وطننا المتأصلة في إنسانه وطبيعته وموقعه وآثاره ونظامه السياسي والإقتصادي. لم أكن أتحدث من لساني بل من قلبي. لم أكن أجتر كلمات إنشائية، بل كنت مؤمنا بكل كلمة أقولها. كلماتي الصادقة الصادرة من القلب، كانت تدفع الناس لبنانيين وغير لبنانيين، إلى الوقوف تصفيقا، وتبعث بين من هم من أصول لبنانية، ألإعتزاز وتدفع بهم الى المزيد من الإيمان بلبنان. لكن هل تحولت العواطف الى عمل؟

لم يحصل ذلك. ففي لبنان لم يأبه السياسيون وأركان السلطة سوى لدراسة مذاهب المهاجرين وبعث سوستهم المذهبية بينهم، وتكوين جماعات حزبية طائفية على قياسهم وقياس مصالحهم الخاصة. كل ما نقلته عن المصلحة الوطنية في تحويل الاغتراب الى جسر محبة وتعاون وصداقة وتبادل تجاري واستثماري بين لبنان وأوطانهم، ظلت في الجوارير المقفلة وفي الملفات المهملة ترعاها العقول المجمدة بشبق السلطة والمادة والتبعية. لبنان بالنسبة لأركان السلطة والسياسة، هو: هم. مصالحه هي مصالحهم. ومصالحهم هي مع أنظمة يخدمون مصالحها في لبنان فتخدم مصالحهم في الحفاظ على السلطة. ألدول اللاتينية لا تستطيع خدمة مصالحهم.

وأكثر ما كان يشعرني بالإشمئزاز، هو أن يأتيك احدهم، من الأتباع، فيقول لك انت تعيش بعيدا فلا تتكلم. ويتهم الذين يرفعون الصوت من الخارج أنهم تركوه يقاتل ويقتل، ولجأوا الى الخارج. نسي هذا الصوت أن المهاجر هرب من الظلم والإضطهاد، ومن استخدامه وقودا لحروب ونيران لا ناقة له فيها ولا جمل. لم يكن الفقر والعوز دافعه إلى الهجرة بل التطلع الى الحرية. الحرية أغلى من الخبز، وكل مال الدنيا لا يسعد قلبا مأسورا بالحقد والكراهية والخوف والغضب والحاجة الى إنسان مثله ليقرر له يومه وغده.

لطالما رفعت الصوت غاضبا. فمثل هذا الرافض لتدخل المهاجر ، يمجد من دفع اخوانا له في الوطن إلى الهجرة، كي يستقر هو وعائلته فيه ينهب أموال اتباعه وأحلامهم. والاسوأ أن هذا الرافض المنزعج من موقف المهاجر دفاعا عن لبنان، يستجدي هو وزعيمه، أموال المهاجر ليساعد في شراء الأدوية للمحتاجين في الوطن الأم، ولدعم المؤسسات الإجتماعية ومشاريع التنمية في قراهم.

أحزن بعمق وأنا أرى كيف يمجدون أصحاب الأحزاب وزبائنتهم المستقرين بينهم ينهبون أموالهم ويرسلونها الى الخارج. ثم يشترون اليخوت والقصور في موناكو و الكوت دازور أو الكاريبي وباريس ولندن وحتى في المهاجر ذاتها التي هاجر اليها الأجداد . كل ذلك، للتمتع بعيدا عن أنين المحتاجين وصراخ المقهورين.
ما أبشع ان ترى أبا وأما يدفعان بأولادهم إلى الخارج بعيدا عنهم، من اجل أن يبحثوا عن مستقبل آمن لهم ثم يلهثون إلى قصر الزعيم وأزلامه للهتاف بالدم بالروح نفديك يا زعيم. وعندما تسألهم يقولون أنه الوفاء. الوفاء! لمن؟ يجيبون. الوفاء لمن ساعدهم بحماية الأرض والعرض.

مؤسف حقا أن لا تستطيع عقولهم فهم أن الذي عرض أرضهم وعرضهم للمخاطر والتهديد هو نفسه الذي يرفعون من اجله شعار بالروح بالدم…. من الذي دفع بجارهم لمهاجمتهم؟ من الذي اقتحم الدامور أولا ونهبها وسرقها؟ من الذي دخل المتن وهجر أهلها ونهب بيوتها. من دفعهم للقتال مع الفلسطيني ضد جارهم تحت راية ان إسرائيل هي العدو وان العروبة تسبق الوطن؟ هل يلومون الجار اذ يدافع عن نفسه؟ لقد جعلونا ندفع بوطننا ليكون سوقا لاغراض الآخرين. هذا ما بقي من الوطن، وما زال البعض يرفع شعار بالروح بالدم…

إلى أهلي في منطقتي أقول، كيف يمكنكم أن تحتفلوا بيوم الشهيد في قراكم والتذكير بالكراهية وتكرار التصميم على القتل والقتال بين بعضكم البعض تحت ذريعة الارض والعرض؟ كيف يمكنكم إعلان تصميمكم على التمسك بفكرة الحرب ضد بعضكم البعض؟ والله عيب، عيب علينا أن لا نتعلم من ذكرى دماء أهلنا وأولادنا وأحبائنا، فنبني بين أولادنا وأحفادنا من جديد مشاعر كراهية التي تعرضهم لخطر مماثل في المستقبل القريب.

كيف يمكن لإبن الشحار الغربي أو أية منطقة تعرضت لسفك الدماء، أن يدافع عن المدفع كرمز للكرامة والعزة ثم يدعو جاره الذي وجه المدفع لقتله لزيارته؟ لمن يوجّه هذا المدفع؟ اين هي المصالحة الوطنية؟ سمير ووليد وجهان لعملة واحدة اسمها السلاح والمال والسلطة.

الوفاء ليس لمن دفع بكم الى آتون الحرب تحت جانح سورية أو جانح الفلسطيني أو جانح إسرائيل، الوفاء يكون لمن يسعى أن يخرجكم إلى الغد، إلى نور الحضارة والحداثة والسلام. قالوا لي مرارا فالج لا تعالج ، قلت نقطة الماء يمكن ان تنقر الصخر. نعم ما أصعب ان تتوجه نحو عقول مغلقة، وقلبك يطفح بالمحبة لها. لكن لا بأس طالما أن الضمير مرتاح.

Spread the love

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *